فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثانية: أن {من} تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين.
فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف.
ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا} قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول.
وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا؟ أي: والله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» أو كما قال.
فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد.
وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة.
وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر: قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد، وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ...} الآية. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ:
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السَّفَرُ وَهُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، وَالْآخَرُ: الْخَوْفُ.
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى الْقَصْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا مَا هُوَ؟ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاةَ الْحَضَرَ أَرْبَعًا وَصَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَالْخَوْفِ رَكْعَةً عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ».
وَرَوَى يَزِيدُ الْفَقِيرُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةً رَكْعَةً.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَصَرَ الْعَدَدَ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى ثِنْتَيْنِ.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قَصْرُهَا فِي الْخَوْفِ وَالْقِتَالِ وَالصَّلَاةُ فِي كُلِّ حَالٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، فَأَمَّا صَلَاةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَلَاةُ النَّاسِ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ فَلَيْسَ بِقَصْرٍ».
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا قَدَّمْنَا فِي الْقَصْرِ، وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا هُوَ قَصْرُ حُدُودِ الصَّلَاةِ وَأَنْ تُكَبِّرَ وَتَخْفِضَ رَأْسَك وَتُومِئَ إيمَاءً» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَوْلَى الْمَعَانِي وَأَشْبَهِهَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ فِي أَنَّهُ قَصْرٌ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ، وَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى الْمَشْيُ فِي الصَّلَاةِ قَصْرًا؛ إذْ كَانَ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ يُفْسِدُهَا.
وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُصَلِّيهِ الْمَأْمُومُ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ فَيُصَلِّي بِاَلَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ يَمْضُونَ إلَى تُجَاهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّيَ بِهَا رَكْعَةً وَيُسَلِّمَ بِتِلْكَ، فَيَصِيرُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَأْمُومِينَ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ يَقْضُونَ رَكْعَةً رَكْعَةً؛ فَيَكُونُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّهُ قَصْرٌ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ: إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ قَدْ تَوَاتَرَتْ فِي فِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِصَلَاةِ الْخَوْفِ مَعَ اخْتِلَافِهَا، وَكُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِلرَّكْعَتَيْنِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ صَلَّاهَا رَكْعَةً، إلَّا أَنَّهَا لِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ وَالْقَضَاءُ لِرَكْعَةٍ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدَةٍ.
وَلَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةً وَاحِدَةً لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحُكْمُ الْمَأْمُومِينَ فِيهَا، فَلَمَّا نَقَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، عَلِمْنَا أَنَّ فَرْضَ صَلَاةِ الْخَائِفِ كَفَرْضِ غَيْرِهِ وَأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لِلْقَوْمِ رَكْعَةً رَكْعَةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ رَكْعَةً رَكْعَةً مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُمْ قَضَوْا رَكْعَةً رَكْعَةً عَلَى مَا رُوِيَ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَصْرُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ أَوْ الْمَشْيِ وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ دُونَ أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَأَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْقَصْرِ مَا وُصِفَ دُونَ نُقْصَانِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، مَا رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنِّي وَصَاحِبٌ لِي خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَكُنْت أُتِمُّ وَكَانَ صَاحِبِي يَقْصُرُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْتَ الَّذِي تَقْصُرُ وَصَاحِبُك الَّذِي كَانَ يُتِمُّ.
فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ لَيْسَتَا بِقَصْرٍ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عُمَرَ قَالَ: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جَمِيعَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ عَلَى مَا وَصَفَ دُونَ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا}؟ فَقَالَ: عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَصْرُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَفْهُومًا عِنْدَهُمْ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ.
قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ مِنْ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ وَمِنْ صِفَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ فِي وَهْمِ عُمَرَ وَيَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ مَا ذُكِرَ، وَأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقَصْرِ فِي حَالِ الْأَمْنِ لَا عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قَصْرَ الْآيَةِ هُوَ فِي الْعَدَدِ فَأَجَابَهُ بِمَا وَصَفَ؛ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ تَأْوِيلَ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَقْصُرُ فِي مَغَازِيهِ، ثُمَّ قَصَرَ فِي الْحَجِّ فِي حَالِ الْأَمْنِ وَزَوَالِ الْقِتَالِ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».
يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَسْقَطَ عَنْكُمْ فِي السَّفَرِ فَرْضَ الرَّكْعَتَيْنِ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ جَمِيعًا.
وَقَدْ رَوَى عُمَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ أَنَّهَا تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ظَنَّ بَدِيًّا أَنَّ قَصْرَ الْخَوْفِ هُوَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، فَلَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ» عَلِمَ أَنَّ قَصْرَ الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ لَا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ.
وَإِذَا صَحَّ بِمَا وَصَفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَصْرِ مَا ذَكَرْنَا لَمْ تَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى فَرْضِ الْمُسَافِرِ وَلَا عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِتْمَامِ وَالْقَصْرِ؛ إذْ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْآيَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْضِ الْمُسَافِرِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: «فَرْضُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ إلَّا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهَا ثَلَاثٌ، فَإِنْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعَةً وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الِاثْنَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَعَدَ فِيهِمَا مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ أَرْبَعَةً بِتَسْلِيمَةٍ» وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: «إذَا صَلَّى أَرْبَعًا أَعَادَ» وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: «إذَا صَلَّى أَرْبَعًا مُتَعَمِّدًا أَعَادَ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ، فَإِذَا طَالَ فِي سَفَرِهِ وَكَثُرَ لَمْ يُعِدْ» قَالَ: «وَإِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَبْتَدِئَهَا بِالنِّيَّةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَتَشَهَّدَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُتِمَّ فَصَلَّى أَرْبَعًا أَعَادَ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بَعْدَ مَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَجْزَتْهُ».
وَقَالَ مَالِكٌ: «إذَا صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا فَإِنَّهُ يُعِيدُ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ» قَالَ: «وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا افْتَتَحَ الْمَكْتُوبَةَ يَنْوِي أَرْبَعًا فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَدَا لَهُ فَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ، وَلَوْ صَلَّى مُسَافِرٌ بِمُسَافِرِينَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ فَإِنَّهُمْ يَقْعُدُونَ وَيَتَشَهَّدُونَ وَلَا يَتْبَعُونَهُ».
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: «يُصَلِّي الْمُسَافِرُ رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَصَلَّاهَا فَإِنَّهُ يُلْغِيهَا وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ».
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «لَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ مَعَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا أَحْرَمَ وَلَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ كَانَ عَلَى أَصْلِ فَرْضِهِ أَرْبَعًا» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ حُكْمُ الْقَصْرِ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ فِي قَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ كُلِّهَا فِي حَالِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، فَثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانُهُ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقَصْرِ فِي حَالِ الْأَمْنِ، فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».
وَصَدَقَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا هِيَ إسْقَاطُهُ عَنَّا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ رَكْعَتَانِ؛ وَقَوْلُهُ: «فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» يُوجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالْقَصْرِ فَالْإِتْمَامُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ» فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَرْضَ رَكْعَتَانِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِقَصْرٍ بَلْ هُوَ تَمَامٌ، كَمَا ذَكَرَ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْجُمُعَةِ وَالْأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَعَزَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ» وَذَلِكَ يَنْفِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجَ مُسَافِرًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ».
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي نَضِرَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «حَجَجْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ».
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «صَحِبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَصَحِبْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}».
وَرَوَى بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ حَتَّى يَئُوبَ إلَى أَهْلِهِ أَوْ يَمُوتَ».
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ».
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيّ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: «رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ».
فَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ فِي فِعْلِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِمَا، وَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا فَرْضُ الْمُسَافِرِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ فِي الْكِتَابِ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ كَبَيَانِهِ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَفِي فِعْلِهِ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ، كَفِعْلِهِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.